Skip to main content

تأملات في الحياة

التطوّر أو الخليقة؟

لا بدّ أنّكم تذكرون تطرّقي لموضوع التطوّر في أكثر من مناسبة، ونظراً لأهميّته في الحياة الفكريّة المعاصرة أعود للكلام عنه خاصة بعد أن وصلتني رسالة من أحد مستمعينا الكرام وهو يدرس في إحدى الجامعات الأجنبيّة. وأرجو ألا يساء فهم هذا البحث وألا يظن القرّاء بأنني أقف موقف المنتقد للعلوم الطبيعية والتقنية. لكنني أجد نفسي مرغماً للعودة إلى البحث في موضوع التطوّر نظراً لتأثير هذه النظرية الفلسفية على موقف العديدين من الشباب والشابات من الله ومن وحيه المقدّس.

دعوني أقتبس أولاً من رسالة المستمع الكريم ثم أعود للكلام مباشرة عن موضوع التطوّر. كتب لي قائلاً ومستفسراً: "فسؤالي هنا ليس عن الروح. فنحن نعرف أنّ الروح شيء لا يعرفه إلاّ الله. ولكن سؤالي هنا: لماذا لا نجد في الكتب السماوية ذكراً لتكوين الإنسان، ولا نجد فيها إلاّ الكلام عن الأرض في الحقبة الرابعة والأخيرة أمّا الحقب الثلاث التي سبقت ذلك فلا نجد عنها الكلام؟ فأنتم تعرفون نظرية داروين والتي يعترف بها العلم لحدّ الآن، تشرح تاريخ تكوّن الخليقة من الأول إلى وصولها في شكل إنسان. فهذا التاريخ ليس موجوداً في الكتب السماوية، فلا نجد الكلام إلاّ على الإنسان في شكله الحاضر، فهل هذا دليلٌ قاطعٌ على فشل النظرية الداروينية؟ أم ماذا؟".

عندما نبحث في نظرية التطور والتي تُنسَب إلى العالم الإنجليزي تشارلز داروين والذي جاء بها في القرن التاسع عشر، علينا أن نأخذ ما يلي بعين الاعتبار:

أولاً: نظرية داروين هي نظرية لا أكثر ولا أقلّ! أعني أنّها مع كونها مكتسية في عقول العديدين من الناس بثياب العلم إلاّ أنّها غير مثبّتة بصورة قاطعة.

ثانياً: كان الجوّ الفلسفيّ الذي أحاط بظهور هذه النظرية جوّاً معادياً لعقيدة خليقة الإنسان من قبل الله. فالنظرة الحياتية الشاملة التي انتشرت في أوروبا منذ عصر النهضة كانت نظرة لا دينية منكرة لسلطة الوحي الإلهي. وبعبارة أخرى، إن الافتراض المسبق (presupposition) في هذه النظرية هو إلغاء عمل الله في الخليقة بما في ذلك خليقة الإنسان.

ثالثاً: لدينا الآلاف من السنين من التاريخ المسجّل والحضارات التي نشأت في كلّ من وادي النيل وبلاد ما بين النهرين هي قديمة جدّاً. لكننا لا نقرأ في سجلات هذه الحضارات القديمة عن أيّ اكتشاف أو ملاحظة سجّلها الأقدمون بخصوص حيوان متقدّم تطوّر إلى إنسانٍ كاملٍ!

رابعاً: حتى وإن سلّمنا جدلاً بصحة نظرية التطور فإننا لا زلنا نجابه موضوع الحلقات العديدة المفقودة في سلّم التطوّر! ونظراً لهذه الحقيقة الصارخة فإنّ دعاة هذه النظرية يرغمون إلى دفع التاريخ إلى الوراء بالملايين من السنين ليوجدوا لنظريتهم وقتاً كافياً لتعمل عملها وتأتي بالتطور المفروض.

وتعليقاً على ما ورد في رسالة المستمع العزيز وخاصة على قوله بأن الكتب السماوية لا تذكر تكوين الإنسان، جوابي هو أنها تذكر الموضوع بكل وضوح. لنأخذ مثلاً توراة موسى وهو أقدم كتب الوحي الإلهي نجد في القسم أو السفر الأول منه والمعروف بسفر التكوين نجد ثلاثة فصول تبحث في موضوع الخليقة. يبدأ سفر التكوين بهذه الكلمات: "في البدء خلق الله السموات والأرض". ثم يأتي الوحي الإلهي على ذكر خليقة الحيوانات والإنسان الذي هو تاج المخلوقات جميعاً. وعندما نصل إلى موضوع الإنسان نقرا ما يلي في فاتحة سفر التكوين: "وقال الله نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا، فيتسلطون على سمك البحر وعلى طير السماء وعلى البهائم وعلى كل الأرض وعلى جميع الدبابات التي تدب على الأرض. فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم".

أما عن كيفية مجيء الإنسان إلى الوجود يعلّمنا الفصل الثاني من سفر التكوين أن الله تعالى هو الذي صنع الإنسان بصورة مباشرة وبدون اللجوء إلى أي نوع من التطور وهذه هي كلمات الوحي الإلهي: "وجبل الرب الإله آدم تراباً من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفساً حيّة".

ونحن عندما نقتبس من سفر التكوين لا نعني بأنه أوحي به بلغة القرن العشرين العلمية بل أعطانا الله محتوياته كبقية أسفار الوحي لنقف على تفهم معنى الحياة البشرية وغاية وجودنا على الأرض. فالوحي الإلهي يعطى دوماً بلغة شعبية مفهومة لا بلغة عويصة لا يفهمها إلا كبار المثقفين!

وعندما نبحث في موضوعنا هذا بحثاً دقيقاً لا بد لنا _ فيما إذا كنا متعلقين بإيماننا بالله الخالق والمعتني بجميع مخلوقاته _ من نبذ نظرية داروين أي نظرية التطور لأنها بعكس ما يقول أصحابها، ليست علمية بل تبقى نظرة حياتية فلسفية غير مبرهنة. وفوق ذلك تقول: نحن وقد وصلنا إلى السنين الأخيرة من القرن العشرين ورأينا ما حدث من أهوال وفواجع ذات أبعاد هائلة، قد اتعظنا بها. وصارت لدينا قناعة هامة ألا وهي وجود خط مستقيم يصل بين هذه النظرية وهضم حقوق العديدين من الناس الذين شرّدوا من ديارهم وجعلوا وكأنهم لا شيء بين أمم وشعوب البشر. فالإنسان الذي يفقد إيمانه بالله الخالق لا يعود ينظر إلى الحياة كهبة من الله ذات قيمة غير محدودة، بل يخال بأنها يمكن أن تنتزع من أي بشري فيما إذا كان هذا المسكين غير قادر على الدفاع عن نفسه!

وخلاصة القول علينا بأن نفرّق بين ما وصل إليه العلم الحديث من مخترعات باهرة نستفيد منها في جميع أحوال حياتنا والنظريات الفلسفية التي تحاول تفسير نشوء الكون والوجود البشري بطريقة تتجاهل فيها الله الخالق ومكانه الفريد في هذا الكون. نحن لا نقف موقف العداء من العلم المعاصر ولا ندعو إلى العودة إلى الماضي بشكل أعمى بل ننادي بإيماننا بالله ونرجع إليه تعالى موضوع مجيئنا إلى حيّز الوجود. ونشهد أنه خلق آدم من تراب الأرض وأننا جميعاً من نسل هذا الإنسان الأول وأن قيمتنا اللامحدودة تكمن في أننا خلقنا على صورة الله وشبهه. لم نتطور نحن البشر تلقائياً أو بصورة عفوية من كائنات سفلى، ولم يظهر كوننا هذا من تلقاء ذاته. تبقى نقطة انطلاقنا حياتياً وفكرياً وثقافياً وحضارياً في معتقدنا القلبي بأن الله هو خالق الإنسان ومبدع الكون. وهكذا ننبذ عنا كل نظرية حياتية مهما طلت نفسها بطلاء العلم فيما إذا كانت مبادئها تعارض جوهرياً عقيدة الله وخليقته للكون وخاصة للإنسان. وقانا الله من الصنميات المعاصرة التي أضحت أشد فتكاً بالإنسان من الصنميات القديمة البالية!

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع كلمة الحياة.
  • عدد الزيارات: 2691