Skip to main content

تأملات في الحياة

التلوّث وحفظ البيئة -2

أعود للكلام عن موضوع التلوث وحفظ البيئة لأركّز اهتمامي على التلوث الذي يجري بسبب التدخين وآثاره على صحّة الإنسان. وهذا موضوع حساس للغاية وأرجو ألا يساء فهم قصدي من التطرّق إليه. فأنا شخصيّاً لا أريد أن أنتقد أي بشريّ قد تعوّد على التدخين وكأنني على مرتبة أخلاقيّة عليا. ما أبغي القيام به هو مشاركتي للقرّاء الأعزّاء آخر ما وصل إليه العلم المعاصر بخصوص هذا الموضوع الخطير.

قبل كل شيء أقرّ بأننا لم نكن نعير هذا الموضوع أي اهتمام منذ نحو ربع قرن. ولكنه نظراً للانفجار السكاني وكثرة استهلاك المواد الكيميائية والمحروقات في عالمنا، لاحظ العلماء بروز مشكلة ذات أبعاد هائلة ألا وهي تلوث الجو وينابيع ومجاري المياه بمواد ضارة للصحة البشرية والحيوانية والنباتية. وهكذا أخذ العلماء يدرسون تأثير هذه المادة أو تلك على الحياة وبعد انقضاء مدّة كافية من الزمن أجمع العلماء على أن الكثير من المواد التي يستهلكها الناس هي ضارّة بالصحّة. فبناء على ذلك ونظراً لأهمية البحث في موضوع التلوث آثرت بأن أبحث في تأثير التدخين على حياة الناس. رائدي الوحيد هو الكلام عن هذا الموضوع بكل صراحة وعن قناعة مدعومة من قبل آخر الاكتشافات الطبية والعلمية.

ونظراً لانتشار عادة التدخين بين الرجال والنساء بكافة أعمارهم قد نخال أن الناس كانوا يدخّنون منذ فجر التاريخ. ولكننا إذا ما تأمّلنا في الأمر مليّاً لا بدّ لنا من الاعتراف بأنّ التدخين هو مظهر حديث نسبياً وأن مادة التبغ لم تكن معروفة في أكثر أنحاء العالم قبل اكتشاف القارة الأمريكية في أواخر القرن الخامس عشر. هذا يعني أنّ البشريّة عاشت بدون التدخين لآلاف من السنين ولذلك لم تجابه هذا الموضوع في أكثر عصور التاريخ.

وكما ذكرنا آنفاً، لم نكن ندري تماماً مدى تأثير التدخين على صحة الناس وذلك لأننا لم نكن مبالين بالموضوع الأوسع ألا وهو موضوع التلوث. كل ما كنا نلمّ به هو أنّ الذين يدخنون يصرفون أموالاً معينة في كل سنة على ما لم يكن ضرورة معيشية. ونحن نعلم بديهياً أننا لا نقدر أن نحيا بدون الأكل والشرب أي شرب السوائل المفيدة كالماء واللبن والعصير. أما التدخين فهو لون من الترف ولذلك كنا ننظر إليه من باب الكماليات. ولكننا ما إن حصلنا على المعلومات المختصّة بالتلوث بصورة عامة وعن تأثير التدخين على صحة الناس بصورة خاصة حتى لم يعد بمقدورنا الوقوف موقف اللامبالاة تجاه هذا النوع الخاص من التلوث. فإن صرنا مقتنعين بضرورة حفظ البيئة بصورة عامة ألا يجدر بنا أن نهتم بأجسادنا وأن نحفظها من التلوث المكثّف الذي يحدث من جراء التدخين؟.

لقد وصل الأطباء الباحثون في مستشفيات الجامعات في مختلف أنحاء العالم إلى رؤية العلاقة المباشرة بين التدخين ومرض السرطان وخاصة سرطان الرئة. هذا لا يعني أنّ كلّ من يدخن يصاب بسرطان الرئة. بل ما أعنيه أنّ احتمال وقوع المدخّن بمرض سرطان الرئة هو كبير جداً نسبياً. هذه حقيقة علمية ثابتة. وفي السنين الأخيرة أخذت بعض البلاد تشدّد على ضرورة وضع تحذير عن مضار التدخين على علب السجاير وعلى الإعلانات التي تنشر في الصحف والمجلات بخصوص هذا النوع أو ذاك من السجاير.

وعلاوة على وجود علاقة مباشرة بين التدخين ومرض السرطان فإن العلماء والأطباء الباحثين وصلوا إلى الإقرار بوجود علاقة مشابهة بين التدخين وسائر أمراض القلب. وليس لدي الإحصاءات الدقيقة عن عدد ضحايا السرطان الرئوي وأمراض القلب المختلفة في العالم لسنة ما ولست أظن بأنني صرت من المبالغين إن ذكرت بأن عددهم قد وصل إلى الآلاف والآلاف!

وفي المدة الأخيرة أخذ العلماء يتكلمون عن مضار التدخين ليس بالنسبة للمدخن نفسه فقط بل بالنسبة لمن يكونون بمقربة منه! وهكذا صرنا نتكلم عن المضار الثانوية للتدخين. ولذلك برزت عادة فرز الناس في الأماكن العامة كالمطارات والمطاعم بين مدخنين وغير مدخنين في بعض أنحاء العالم!

أيها القارئ العزيز، لست أكتب في هذا الموضوع بصورة فوقية ولا أروم بأن أظهر بموقف المنتقد المتطرّف لعادة انتشرت بين الناس بصورة مضطردة لمدة تقارب الخمسة قرون. لكنني أكون خائناً للأمانة التي أعطاني إياها الله إن لم أذكر موضوع التلوث بصورة عامة وأخطار التدخين بصورة خاصة.

ما هو الحل لمشكلتنا هذه؟ لن أجيب على هذا السؤال من النواحي الاقتصادية والضريبية والتجارية بل أقتصر على الناحية الأخلاقية.

فنظراً لحصولنا على معرفة كافية لمضار التدخين على المدخنين وعلى الذين يعيشون في محيطهم الجويّ، نجابه توّاً هذا السؤال المصيري: ما هو موقفي من جسدي ومن صحة جسدي؟ وما هي مسؤوليتي تجاه أقراني بني البشر والذين يعيشون في جوّي؟ أيمكنني الآن أن أنسى أو أتناسى جميع المعلومات والحقائق العلمية التي تشير إلى تأثير هذا النوع الخاص من التلوث على صحتي وصحة الناس من حولي؟

في نهاية المطاف، يتوقّف جوابنا على النظرية الحياتية التي ندين بها. فإن كنا نعتقد بأن الإنسان هو الكائن العاقل الوحيد في كوننا هذا، أي إن كنا لا نؤمن بالله وبهيمنته على كل ما في الوجود وخاصة على حياة البشر، فإننا إذ ذاك قد لا نبلي بصحتنا الجسدية. همّنا الوحيد في الحياة يضحي التمتّع، ولو وقتيّاً، بنوعٍ من الملذّات التي نرجعها إلى التدخين، متذرّعين بأن ذلك يهدّئ نم أعصابنا المتوتّرة. لكننا إذا ما أخذنا الإيمان بالخالق بعين الاعتبار واعترفنا بأنّ أجسادنا هبةٌ منه تعالى وأننا مسؤولون عن طريق معاملتنا لأجسادنا وأجساد الذين يعيشون في محيطنا، لا بدّ لنا، إذ ذاك، من مجابهة موضوع التدخين بواقعية وشجاعة أخلاقية.

ما هو موقفك من جسدك؟ أهو لك بصورة مطلقة أم هو أمانة من الله؟ أختم تأمّلي هذا باقتباسي من لمات الوحي الإلهي من رسالة بولس الرسول الأولى إلى جماعة الإيمان في كورنثوس:

أما تعلمون أنّ جسدكم هو هيكل الروح القدس الذي فيكم، الذي نلتموه من الله وأنكم لستم لأنفسكم لأنكم قد اشتريتم بثمن؟ فمجدوا الله في أجسادكم وفي أرواحكم التي هي لله!

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع كلمة الحياة.
  • عدد الزيارات: 3177