Skip to main content

تأملات في الحياة

الغربة الروحية في عالم اليوم

يعيش إنسان القرن العشرين في أيامنا هذه حياة مليئة بالمتناقضات. فهو من جهة أغنى البشر نظرا لكثرة الامكاناًت التي يمكن أن تستغل لمصلحته. فهو يستطيع أن يتنقل بسرعة من مكان إلى آخر وأن يتصل بأقرانه بني البشر ولوكانوا في أطراف الأرض ومن جهة أخرى يشعر إنسان القرن العشرين بنوع من العزلة الروحية نظرا لتحطم آماله ولعدم بزوغ عصر جديد كان يحلم به الناس منذ أو ائل هذا القرن. وهو لا يقدر أن يثق بالناس وبالجماعات البشرية لأنه اختبر بأن الكثرين منهم لا يهتمون الا بمنافعهم الشخصية وهم يضحون بالصداقة والقرابة البشرية في سبيل الوصول إلى مآربهم.

وهكذا لا نتعجب أن وجدنا بعض الكتاب في هذه الأيام يصفون حالة الإنسان القلق والمحتار باسم الغربة الروحية. فكما أن العديدين من الناس يضطرون لاسباب اقتصادية بأن يتركوا أو طانهم للذهاب إلى بلاد غريبة طلبا للرزق فيصيرون مغتربين أو مهاجرين ويبدأون بالعيش بين أناس لا يفهمونهم كما يجب ولا يتعاشرون معهم نظرا لتفاوت المقاييس والعادات الاجتماعية. هكذا صار العديدون من الناس يعيشون في نوع من الغربة الروحية حتى بدون أن يكون قد اقتلعوا من مسقط رأسهم وبيئتهم الاعتيادية.

وقد وصف أحد الكتاب هذه الحالة في مقال ورد في مجلة أسبوعية في هذه الكلمات : " حين تنحط مظاهر العالم الخارجي المحيطة به، غالبا ما يرتد الإنسان إلى داخل نفسه وكأنه هو قد أصبح العالم كله. ويروح يحأور نفسه، ويقتات منها، ومن كل ما صار جزءا منها، كالذكرى أو الخيال أو الصديق أو الحبيب. ويخفف اهتمام الناس، عندئذ، بالنشاط الخارجي الدائر حوله، يخف إلى درجة قد يبلغ منها العدم... أن هناك ما يسمى ظاهرة الانكماش على الذات " أو " الغربة الروحية " أو " التوغل الداخلى " أو " التقوقع " أو " الانعزال النفسي " جميعها هنا تخدم معنى واحدا هو معنى الهجرة الروحية عن " الجماعة " والسكن في النفس. والشعور بالقرف من الاشياء العائمة على السطح، والشعور بالعجز عن التجأوب مع هموم الاخرين "

وليست هذه الظاهرة المحزنة التي وصفها الكاتب بأمر محصور بمكان واحد من العالم بل انها شبه عامة وقد نكون ملمين بها شخصيا واختباريا أن كنا مهتمين بصورة جديدة بالأمور المصيرية التي تعصف بعالمنا اليوم. وليست هذه الحالة الروحية المدعوة بالغربة الروحية بالأمر الذي نتغلب عليه بسهولة وهي تختلف كثيراً عن الغربة الجسدية أو الجغرافية التي عرفها العديدون من الناس منذ القديم. فالذي اضطرته ظروف الحياة بأن يترك ديار الوطن ويتغرب في بلاد أجنبية فإنه يستطيع بعد مدة من الزمن أن يكيف حياته بطريقة تساعده على العيش بطريقة مقبولة ولا يعود يشعر بوحشة كبيرة كالتي ألمت به في أو ل أيام هجرته. وبكلمة أخرى أن الأيام تلطف من حدة الغربة الجغرافية وان يكن المغترب يبقى بشوق كبير وبحنين متزايد يفكر بيوم العودة إلى أرض الوطن والعيش بين الاهل والخلان. أما الأيام فإنها لا تلطف أو توماتيكيا من حدة الغربة الروحية التي تلم بالعديدين من الناس إذ أن هذه الحالة النفسية تزداد حدة مع الزمن.

ونظرا لتكوين الإنسان النفسي فإنه لا يرغب مطلقا بأن يبقى عائشا في حالة الغربة الروحية والانعزال عن بقية البشر. ليس من إنسان يحب العيش في فراغ روحي لأنه بطبيعته كائن اجتماعي وهناك أبعاد لحياته تتجأوز البعد الفردى المحض. وهكذا نرى أن رد الفعل الذي يختبره كل من اغترب روحيا هو بحث جدى عن مخرج أو باب للعودة إلى الحياة في أبعادها التي تتعدى البعد الفردى.

وهنا نعود إلى الاقتباس من المقال الذي اقتطفنا منه بعض الجمل منذ لحظات بخصوص موضوع الغربة الروحية :

" كل واحد يبحث عن معجزة، معجزة تنقذه من اللحظات الهالكة في الفراغ، وترفعه إلى الله أو تنـزل الله اليه بحركة كأنها البرق أو البركان أو الهذيان... المؤمن يقول : الله يملأ، الله يخلص، الله يريح... ولكن أينسى المؤمن أن درب الله تمر بالبشر؟ وأن درب البشر تملأ ولا تملأ، تخلص وتميت، تريح وتعذب؟ ما أسهل الاحالة على الله؟! لكن بينك وبين الوصول اليه طريق تقودك إلى نفسك. وفي نفسك قد تبقى، أعمى ومجنونا من الالم تبقى، ولا يستطيع أكبر مارد في الزمان أن يقيمك! "

البحث عن المعجزة للخلاص من الغربة الروحية لأمر منطقي أن سلمنا بأن الإنسان لم يخلق لنفسه بل للعيش في عالم الله وفي شركة مقدسة مع الله ومع بني البشر. ليست الغربة الروحية إذن سوى عأرض مرض خطير ملم بكل إنسان وعندما لا يعيش الإنسان بحسب غاية وجوده على الأرض فمن البديهي انه يشعر بنوع من الغربة الروحية. وقد قال بهذا الصدد منذ نحو ألف وخمسمائة سنة أغسطين القديس الذي يعد من أعظم المؤمنين الذين أنجبتهم القارة الافريقية قال في دعاء وجهه إلى الله بعد اهتدائه إلى الطريق القويم : " يا الله لقد خلقتنا لذاتك وأنفسنا لن تعرف الراحة الا متى وجدت راحتها فيك يا الله! "

يحق للمؤمن القول : " الله يملأ، الله يخلص، الله يريح، بشرط أنه يعي ما يقول. فالله هو الوحيد الذي يملأ الفراغ الروحي الهائل الذي نجده اليوم في قلوب الناس. ولكن الله يملأ ويخلص ويريح وينقذ ويعطي للحياة معناها وقيمتها ومثلها العليا حسب شروطه لا بمقتضى تصوراتنا.

ليس الله باله يحبذ الحياة الفردية المطلقة ولا يسر تعالى بانعزالية تجعل من كل إنسان جزيرة صغيرة مستقلة. وعندما يأتي الله بواسطة كلمته المحررة والمنيرة ليملأ الفراغ الموجود في كل إنسان فإنه يفهم ذلك الإنسان بأنه ليس بفرد مطلق بل انه عضو من أعضاء البشرية وهناك من يشاركونه هذا الإيمان ضمن جماعة أهل الإيمان. ويفهم من اختبر تحرير حياته من الفراغ واللامعنى بأن التزاماته الحياتية ليست ذات اتجاه واحد، على العكس المؤمن الحقيقي هو ذلك الذي يقر بأنه يعيش في حضرة الله الواحد السرمدي القدوس وان واجباته والتزاماته عديدة تجاه أقرانه بني البشر. يشعر المؤمن أنه مدعومن قبل الله ليكون سفيرا للمصالحة بين الناس إذ انه وقد اختبر نهاية هجرته الروحية يود بأن يختبر الاخرون هذا الخلاص والانعتاق. يشهد المؤمن بهذه الشهادة لأنه اختبر فعليا قوة المسيح التحريرية ضمن حياته، وهو يعلم علم الاكيد أن كلمة الله هو فوق كل شيء وقبل كل شيء مخلص ومحرر البشرية المعذبة وهو قادر بأن ينقذ كل إنسان من غربته الروحية.

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع كلمة الحياة.
  • عدد الزيارات: 2565