Skip to main content

تأملات في الحياة

حالة البشرية المحزنة

عندما بحثنا سابقا في موضوع معنى الخليقة قلنا أن كل ما في الوجود : الكون الشاسع الاطراف وأرضنا هذه وما عليها من كائنات حية وغير حية، كل شيء خلق من قبل الله الواحد السرمدي الازلى وقبل البحث في موضوع حالة البشرية المحزنة (ومن ينكر ذلك في هذه الأيام الا المتعامي عن الحقيقة؟). لابد لنا من أن نذكر بعض أمور أساسية وهي :

الله تعالى اسمه وهو الخالق، وبما أنه كامل في صفاته وقدوس في ذاته، فان كل ما صنعه الله هو كامل. فالكواكب التي نراها بالعين المجردة أو تلك التي نشاهدها بواسطة المراصد الفلكية، جميعها تشير بأن باريها قد صنعها بهكذا دقة ومهارة وحكمة ودراية حتى انه من المستحيل تعليلها على أي أساس آخر سوى أساس الخليقة. ويمكننا الاشارة أيضاً إلى العوامل المتعددة التي تجعل الحياة ممكنة على الأرض. وكنا قد خصصنا بحثا مفصلا عن هذا الموضوع في الجزء الأول من كتاب : تأملات في الحياة المعاصرة. أما الآن فنذكر بأن الله وحده هو الذي أو جد التوازن التام والكامل في أرضنا هذه ذلك التوازن الذي بدونه لا يمكن للحياة النباتية أو الحيوانية بأن توجد. أليس هذا لدليل عظيم على كمال عمل الله في الخليقة؟

ويمكننا أيضاً الاشارة إلى تركيب العناصر وكيف أن هناك قوات هائلة كامنة في الذرات التي لا ترى بالعين المجردة. ألا تقودنا هذه المعلومات إلى تمجيد وتعظيم وتكبير اسم الله العظيم؟

كل شيء هو حسن وجيد أي كل ما صنعه الله. ولكن ما هذا؟ ما هذا الذي نشاهده في عالمنا؟ ما هو هذا التشويش الهائل الذي يقض مضجع البشرية بأسرها؟ كيف نعلل هذه الظاهرة المحزنة؟ وعندما نسأل هذا السؤال كمؤمنين نقيد أنفسنا مبدئيا بألا نخرج عن نطاق إيماننا بعقيدة الخليقة، إذ أن كل جو اب يتنافى مبدئيا مع عقيدة الخليقة يزيد من شقائنا ولا يساعدنا على حل مشكلتنا.

فعندما ما نأتي إلى البحث في حياة الكائنات الحية العاقلة والمتمتعة بارادة نلاحظ وجود عامل غريب طفيلي عالق بجسمها (ولا نعني هنا بجسمها المادى بل بكيانها بصورة شاملة). وهذا العامل هو الميل الدائم نحو الشر والابتعاد عن الخير. نجد الإنسان وهو تاج كل المخلوقات على هذه الأرض لا يسير حياته كما يجب بل يندفع بصورة مستمرة نحو طريق لم يرسمه، طريق يجلب بواسطته الشقاء والدمار على رأسه وعلى أقرانه بني البشر. سمي هذا الميل أو هذا الدافع ما شئت، انه موجود في الإنسان وهو يكون قلب مشكلته الحياتية. وما سبق هو التعليل الديني المبني على الوحي لسبب شقاء الإنسان والبشرية جمعاء.

وهنا لابد من الاشارة بأن العديدين من الناس قد انساقوا وراء الفلسفات اللادينية المعاصرة التي طلت نفسها بطلاء العلم وهم ينبرون إلى مهاجمة التعليم الذي أتينا على ذكره قائلين بأنه تعليم بدائي وقديم علينا التخلي عنه في أيامنا هذه، أيام النور والإشعاع الثقافي. وهذه الفلسفة وان كانت غربية المصدر والمنشأ الا أنها هبطت علينا نحن ابناء الشرق منذ أو ائل القرن التاسع عشر نظرا لاحتكاكنا بالثقافات الغربية. وهكذا لا يجوز لنا أن نتجاهل وجودها أو أن ندعي بأنها لم تؤثر علينا!

الفلسفة اللادينية المعاصرة مع تعدد ألوانها تدين بعقيدة تطور الإنسان من أصل حيواني عبر العصور العديدة. وهي تفسر مثلاً قساوة الإنسان وميله نحو الشر كرواسب أو بقايا الطبيعة الحيوانية الموروثة عن الماضي السحيق. فان كنا نتعجب مثلاً من غرابة أخلاق إنسان القرن العشرين وما قام به ابان الحرب العالمية الثانية وما تلاها من حروب متعددة، بعضها بعيدة عنا وأخرى في عقر ديارنا، فان دعاة الفلسفة اللادينية المادية يقولون لنا : ما بالكم تتعجبون وتندهشون؟ ألا تعلمون أن الإنسان من أصل وحشي وأنه لا يزال يرتقي سلم النشؤ والارتقاء؟! ألا تدرون أن الطريق إلى الكمال لا تزال طويلة وشاقة جدا؟! أمهلوا الإنسان، اعطوه عدة قرون حتى توجد البشرية جيلا جديدا وكاملا!

كل من أعتقد بحسب هذا المعتقد لايدين مطلقا بالإيمان الذي يفسر كل شيء على أساس أن الله هو الذي خلق الكون وكل ما فيه وان الإنسان انما صنع كخليقة جيدة وصالحة وقابلة للكمال الاخلاقي والروحي. يرفض المؤمن بالله بكل عناد عقيدة الصعود من أصل حيواني يأخذ المؤمن بالله بعين الاعتبار حقيقة التعليم الإلهي الذي ينبئنا عن سقوط الإنسان من المرتبة العالية التي كان قد خلق عليها. تاريخ الإنسان ليس بتاريخ صعود وارتقاء من اصل حيواني، انه تاريخ مؤلم تاريخ سقوط وتدهور الإنسان من المرتبة الشريفة التي كانت له ووقوعه في حمأة الشر والرذيلة. وما حدث في فجر التاريخ لم يحدث بصورة فردية للإنسان الأول فقط، بل حدث للبشرية بأسرها. فثورة آدم وآدم هو اسم إنسان الأول حسب تعليم الوحي، ثورة آدم جلبت شقاء ودمارا على حياة البشرية لان اختيار آدم للشر كان اختيارا عن البشرية الموجودة في صلبه. وهكذا صار الميل نحو الشر ملازما للطبيعة البشرية الموروثة عن آدم. وهذا الميل الدائم نحو الشر يدعى في لغة الكتاب باسم الخطية أو الخطيئة.

ولميل الإنسان الدائم نحو الشر ابعاد شخصية فردية وابعاد تشمل سائر نواحي الحياة في معناها الأوسع كالحياة العائلية والاجتماعية والدولية. وليس تاريخ البشرية المدون منه وغير المدون، الا مسرحا لحوادث كانت جميعها متأثرة بعامل الخطية.

ولكن تطرق الوحي الإلهي للبحث في هذا الموضوع ليس مجرد تعليل وتشخيص بل انه المرحلة الأولى من مراحل الدواء والشفاء والتحرير. فالله الذي يخبرنا عن واقعنا المؤلم لا يقوم بهذا لكى يزيد من شقائنا وتعاستنا، بل ليخبرنا عن عمله الحاسم الذي قام به في وسط العالم والتاريخ أي في الأرض المقدسة عندما عمل لنا السيد المسيح فداء جبارا من سطوة الخطية وطغيان الشر. فرفضنا للفلسفة المادية اللادينية لا يعود إلى ميل رجعي بل إلى إيماننا بالله الخالق والذي أصبح في المسيح يسوع محرر البشرية وفاديها. 

لمزيد من الفائدة والإضطلاع على موضوعات مشابهة، الرجاء زيارة موقع كلمة الحياة.
  • عدد الزيارات: 1902