Skip to main content

الأنبياء

داود يعفو عن شاول

بعد أن هرب داود من »صخرة الزلقات« التي انزلق فيها شاول، ولم يقدر أن يقبض عليه، سكن في حصون »عين جدي« وهي حصون »طبيعية« في الصخور، فوق جبل عال جداً يصعب الوصول إليها. وفيها مغائر كبيرة مظلمة، تسع الواحدة أكثر من أربعمائة رجل. وكان فيها ينبوعان للماء، كما كان بها بعض الأشجار والنباتات. ولقد وجد داود في عين جدي ملجأ طبيعياً يلجأ إليه وقت الخطر.

وعندما رجع شاول من الحرب مع أعدائه عرف أن داود موجود في برية عين جدي، فأخذ معه ثلاثة آلاف جندي، وذهب يطلب داود على »صخور الوعول« وهي أعلى مكان في تلك الجبال. وجاء شاول إلى »صير الغنم« وهي حظائر يبنيها الرعاة عند باب الكهف ليحفظوا فيها الغنم أثناء الليل، أو ليحفظوها من العاصفة أو من المطر. وجلس رجال شاول تحت صير الغنم، أما هو فدخل إلى الكهف وحده ليستريح بينما كان داود ورجاله جالسين داخل الكهف في الظلام. وبالطبع لم يقدر شاول أن يراهم، لكن رجال داود استطاعوا أن يروه ويعرفوه، لأنه دخل من النور، وعيونهم قد اعتادت الظلام. ورأوا أن هذه فرصة ذهبية يقتل فيها داود عدوه شاول الذي يطارده، ويتولى حكم البلاد، فيستريحون من الجولان في الأرض والهروب في الجبال، ويستقرون. فقال رجال داود له: »هُوَذَا الْيَوْمُ الَّذِي قَالَ لَكَ عَنْهُ الرَّبُّ:هَئَنَذَا أَدْفَعُ عَدُوَّكَ لِيَدِكَ فَتَفْعَلُ بِهِ مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكَ« (1صموئيل 24:4).

لكن داود رفض هذا رفضاً باتاً، وعفا عن شاول الذي وقع بين يديه. واكتفى بأن قطع طرف جُبَّة شاول سراً. ربما كان قد خلع جبته ووضعها إلى جانبه، فقطع داود طرفها. وثار ضمير داود عليه، وتأسف في قلبه لأنه قطع طرف الجبة. وقال داود: »حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أَعْمَلَ هذَا الْأَمْرَ بِسَيِّدِي بِمَسِيحِ الرَّبِّ، فَأَمُدَّ يَدِي إِلَيْهِ لِأَنَّهُ مَسِيحُ الرَّبِّ هُوَ« (1صموئيل 24:6). وحاول رجاله أن يقتلوا عدوهم شاول، ولكن داود منعهم.

وبعد أن استراح شاول قام من نومه وخرج من الكهف. وانتظر داود مدة حتى ابتعد شاول، ولعله نزل من على صخرة وصعد إلى صخرة أخرى. ثم نادى داود على شاول. وعندما سمع شاول التفت إلى ورائه، فخرَّ داود على وجهه إلى الأرض احتراماً، فقد كان يعرف أن شاول هو الملك الحالي الذي يستحق الاحترام، وأطاع كلمات التوراة: »رئيس شعبك لا تقل فيه سوءاً« (خروج 22:28). وبدأ داود يكلم شاول فقال: »لَاذَا تَسْمَعُ كَلَامَ النَّاسِ الْقَائِلِينَ: هُوَذَا دَاوُدُ يَطْلُبُ أَذِيَّتَكَ. هُوَذَا قَدْ رَأَتْ عَيْنَاكَ الْيَوْمَ هذَا كَيْفَ دَفَعَكَ الرَّبُّ لِيَدِي فِي الْكَهْفِ، وَقِيلَ لِي أَنْ أَقْتُلَكَ، وَلكِنَّنِي أَشْفَقْتُ عَلَيْكَ وَقُلْتُ: لَا أَمُدُّ يَدِي إِلَى سَيِّدِي لِأَنَّهُ مَسِيحُ الرَّبِّ هُوَ. فَانْظُرْ يَا أَبِي، انْظُرْ أَيْضاً طَرَفَ جُبَّتِكَ بِيَدِي. فَمِنْ قَطْعِي طَرَفَ جُبَّتِكَ وَعَدَمِ قَتْلِي إِيَّاكَ اعْلَمْ وَانْظُرْ أَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِي شَرٌّ وَلَا جُرْمٌ، وَلَمْ أُخْطِئْ إِلَيْكَ، وَأَنْتَ تَصِيدُ نَفْسِي لِتَأْخُذَهَا. يَقْضِي الرَّبُّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ وَيَنْتَقِمُ لِي الرَّبُّ مِنْكَ، وَلكِنْ يَدِي لَا تَكُونُ عَلَيْكَ. كَمَا يَقُولُ مَثَلُ الْقُدَمَاءِ: مِنَ الْأَشْرَارِ يَخْرُجُ شَرٌّ. وَلكِنْ يَدِي لَا تَكُونُ عَلَيْكَ. وَرَاءَ مَنْ خَرَجَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ؟ وَرَاءَ مَنْ أَنْتَ مُطَارِدٌ؟ وَرَاءَ كَلْبٍ مَيِّتٍ! وَرَاءَ بُرْغُوثٍ وَاحِدٍ! فَيَكُونُ الرَّبُّ الدَّيَّانَ وَيَقْضِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَيَرَى وَيُحَاكِمُ مُحَاكَمَتِي وَيُنْقِذُنِي مِنْ يَدِكَ« (1صموئيل 24:9-15).

ونلاحظ في حديث داود الأمور التالية:

كان يتكلم عن الرب كل الوقت. قال إن الرب هو الذي أقام شاول ملكاً، وهو الذي دفع شاول في يده في ذلك اليو،. وهو الذي يقضي ويحاكم وينفذ. كان داود متأكداً أن يد الرب خلف الأمر كله، فهو الذي يمسك شاول ويمسك داود ويحكم كل شيء. إن شعورنا أن الرب معنا في كل حين يعطينا الطمأنينة والراحة والثقة. إن الرب هو الكل في الكل لنا، وإننا به نحيا ونتحرك ونوجد، وإن منه وبه وله كل الأشياء.

ثم تكلم داود مع شاول عن كلام الناس. قال: »لماذا تسمع كلام الناس: داود يطلب أذيتك؟«. يقول المفسرون إن داود كتب المزمور السابع عن هذا الأمر. ويقولون إن رجلاً اسمه كوش البنياميني كان يكلم شاول ضد داود بدون وجه حق. ويقول داود في المزمور السابع: »إن كنت يا رب فعلت الشر فلتعاقبني«. ثم يقول إن عدوه يشبه الأسد الذي يريد أن يفترسه. لقد قال الناس كلاماً خاطئاً لشاول الملك، إن داود يطلب أن يؤذيه ويطلب أن يقتله.

يسبّب كلام الناس دوماً مشاكل كثيرة ويخلق سوء تفاهم... قبل أن تصدق ما يقوله الناس، اسأل أولاً حتىتعرف الصواب من الخطأ. قال إمام الحكماء سليمان: »لَا تَضَعْ قَلْبَكَ عَلَى كُلِّ الْكَلَامِ الَّذِي يُقَالُ« (جامعة 7:21). لا تجعل كلام الناس يبعدك عن الصواب ويقلب هناء حياتك. ضَعْ عقلك في رأسك وتصرَّف بحكمة.

ثم تكلم داود إلى الملك شاول بمحبة. قال له: »يا أبي«. لم ينس داود أنه عاش في بيت الملك شاول وأكل عنده. ولم ينس أنه تزوج ابنته ميكال، فشاول هو حمو داود. ولم ينس أن الملك هو والد صديقه المحبوب يوناثان، لذلك خاطبه على أنه أبوه. صحيح أن شاول طلب قتل داود لكن هذه الغلطة لم تجعل داود ينسى أن شاول أبوه.

إن كنا نكلم أعداءنا بمحبة، فسوف نكسب كل موقف. وإن كان لنا عدو فيجب أن نتذكر محاسنه كما نتذكر عيوبه، فهذا يساعدنا على أن نغفر له.

وتكلم داود مع شاول بتواضع. قال عن نفسه: إنه مثل كلب ميت أو مثل برغوث واحد. وهذا معناه أن داود متواضع، لا يظن في نفسه أنه شيء كبير.

البرغوث سريع الحركة، ومن الصعب أن تمسكه، وقبل الوصول إليه يقفز إلى مكان آخر، لكنه شيء حقير. فلماذا يأخذ شاول ثلاثة آلاف جندي ليطارد رجلاً واحداً هو داود؟ كان الواجب أن يأخذ شاول رجاله ويحارب الأعداء بدلاً من الجري وراء داود الذي استخدمه الله ليخلص به الشعب خلاصاً عظيماً يوم قتل جليات الجبار.

ثم تكلم داود إلى الملك شاول بتسامح. لم يقتل الملك، مع أنه كان يقدر - بل قال له: »قيل لي أن أقتلك ولكنني أشفقت عليك، وقلت: لا أمد يدي إلى سيدي لأنه مسيح الرب هو«.

شاول يعتذر لداود:

بعد أن سمع الملك شاول هذا الكلام من داود أخذه الحياء، وشعر أنه أخطأ في مطاردته لداود. وبكى وجعل يذكر الخطأ الذي سقط فيه، ونجد في كلام شاول لداود اعتذاراً. قال له: »أَنْتَ أَبَرُّ مِنِّي لِأَنَّكَ جَازَيْتَنِي خَيْراً وَأَنَا جَازَيْتُكَ شَرّاً. وَقَدْ أَظْهَرْتَ الْيَوْمَ أَنَّكَ عَمِلْتَ بِي خَيْراً لِأَنَّ الرَّبَّ قَدْ دَفَعَنِي بِيَدِكَ وَلَمْ تَقْتُلْنِي« (1صموئيل 24:17، 18). وتعجب الملك شاول من تسامح داود، وتساءل: »فَإِذَا وَجَدَ رَجُلٌ عَدُّوَهُ، فَهَلْ يُطْلِقُهُ فِي طَرِيقِ خَيْرٍ؟« (آية 19) والجواب أنه لا يطلقه في طريق خير، بل يقتله. وفي كلامه مع داود اعترف له أن داود سيصبح الملك القادم على بني إسرائيل. قال له: »الْآنَ فَإِنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ تَكُونُ مَلِكاً وَتَثْبُتُ بِيَدِكَ مَمْلَكَةُ إِسْرَائِيلَ« (آية 20). كان صموئيل قد ذكر للملك شاول أن الله نفسه يعلم ذلك. لقد رأى شاول بنفسه صلاح داود، وعرف أن داود هو الشخص الصالح الذي سيملك (1صموئيل 15:28، 23:17).

وأخيراً نرى شاول يقطع مع داود عهداً. طلب منه أن يحلف له أنه لا يقطع نسله من بعده، ولا يبيد اسمه من بيت أبيه. وحلف داود لشاول كما قال. ورجع شاول إلى بيته، ورجع داود إلى الحصن فوق الجبال.

ولكن السلام بين داود وشاول لم يستمر، فقد خرج شاول مرة أخرى ليفتش عن داود ليقتله، ونسي الوعد الذي قطعه على نفسه. لا شك أن الملك شاول كان مريضاً، وكان الحقد ينهش قلبه. لعل كلام كوش البنياميني جعل شاول يتغير ويحقد على داود من جديد. ومرة أخرى وقع شاول في يد داود، ولكن داود عاد يعفو عنه من جديد. ورأى داود أن لا فائدة من البقاء في بلاد إسرائيل، فذهب إلى أخيش ملك جت. وفي هذه المرة قبله أخيش لأنه علم أن شاول يطارده ويريد أن يهلكه. وعندما عرف شاول أن داود هرب إلى بلاد الوثنيين لم يعد يفتش عليه.

درس في الغفران:

يعلمنا داود درساً عظيماً في الغفران. سبق أن عفا يوسف عن إخوته بعد أن وقعوا في قبضة يده. باعوه عبداً في مصر، وأساءوا إليه، وها هو الآن صار رئيساً في مصر،وهم بين يديه، يستطيع أن يهلكهم جميعاً، ولكنه في حب كامل غفر لهم وعفا عنهم.

ولكن داود فعل شيئاً أعظم. إنه عفا عن الملك شاول الذي يريد أن يقتله. إنه يعفو عن عدوه. ويذكرنا بالكلمات التي قالها السيد المسيح في صلاته من أجل صالبيه: »يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لِأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ« (لوقا 23:34).

ليتنا نتخذ السيد المسيح مثالاً لنا حتى نعفو عن الذين يسيئون إلينا، ونصلي من أجلهم ليصلح الله أمورهم.

ولا شك أن سؤالاً يواجهنا الآن: هل خسر داود عندما سامح شاول؟ لقد وقع شاول بين يديه، لكنه عفا عنه، وعاد شاول يطارده من جديد ليلقي القبض عليه ليقتله... والإجابة: لا، لم يخسر داود. بالعكس: إنه ربح.

أول ما ربحه أنه منع ارتكاب جريمة. كان يمكن أن يقتل شاول، ولكنه منع نفسه عن ارتكاب جريمة قتل.

وامتلأ داود بالشجاعة، فقد وقف ينادي على عدوه شاول وطرف الجبة في يده دون أن يخاف. كان يعلم أنه على صواب بينما الملك على خطأ. ووقوف الشخص إلى جانب الصواب يعطيه شجاعة عظيمة.

ونال راحة نتيجة غفرانه. لم يكن ضميره يعذبه. عندما قطع طرف الجبة ضربه قلبه ولم تطاوعه نفسه، لكن العفو أعطاه راحة القلب وصفاء النفس.

وكان عفوه سبب تبكيت للملك شاول. شعر الملك أنه أخطأ، فاعتذر لداود عن ذلك. وأعطى الغفران داود المكان الأقوى، وصار الملك شاول في المكان الأضعف حتى أنه اعتذر له.

عندما تعفو عمن يسيء إليك تكسب الكثير، وتمنع زيادة الخطأ، فإن الخصام يزيد باستمرار، والنفوس تمتلئ دوماً بغضب أكثر، ولكنك عندما تغفر تمتلئ بشجاعة الذين يقفون إلى جانب الحق، وتنال راحة ضمير كل من يرضي الله، ثم أنك تنشئ التوبة في نفس الشخص الذي تعفو عنه.

هل يستحق الخصام وسوء التفاهم كل الثمن الذي ندفع فيه؟ إن الذي يعفو هو الذي يكسب.

وأنت...؟

هل أنت في حالة تشبه حالة داود، تجد عدواً يطاردك يريد أن يهلكك، يضايقك ويعاكسك في رغباتك، وإذ به يقع في يديك، ويمكن أن تؤذيه - ماذا ستفعل؟

إن كنت ترى نفسك في مثل الحالة التي وقع فيها داود فنرجوك أن تفعل الآتي:

فتِّش قلبك. فقد يكون هناك أساس للافتراءات التي افترى بها الناس عليك. إن وجدت أي أساس لافتراءات الناس فاعمل على إزالته فوراً. يقولون أن لا دخان من غير نار. قد يكون هناك سبب لهذه الافتراءات فإن كنت مخطئاٌ أصلح الخطأ وقل: »نشكر من أهدى لنا عيوبنا«..

إن وجدت أن هذه الافتراءات التي ضدك بدون أساس فستكون مثل السيد المسيح في آلامه، فقد افترى شيوخ اليهود عليه بدون وجه حق. هكذا فعل العالم في القديسين والرسل. لا شك أن الافتراءات الخاطئة الكاذبة ستجعلك أقرب إلى الله، لأنك إليه ترفع قلبك بالصلاة.

لا تحاول أن تنتقم لنفسك، بل اترك النقمة للرب، هو الذي قال: »لِيَ النَّقْمَةُ أَنَا أُجَازِي يَقُولُ الرَّبُّ« (رومية 12:19). لا تحاول أن تأخذ مكان الله فتحكم على المفتري وتنفذ الحكم. لا تكن قاضياً ومنفذاً، لكن خذ مكان الشاكي الذي يشكو إلى الله، وينتظر إنصاف الله. إنك إن فعلت هذا سوف تضع جمر نار على رأس عدوك، وستجد أن الله أسرع لمعونتك.

لا تصدق كل كلام الناس، فإن كثيرين يحبون أن يصيدوا في الماء العكر. تأكد من صحة الكلام الذي تسمعه، واسأل عن مصدره قبل أن تتأكد أنه صحيح.

وأخيراً نقول لك: اترك لله أن يظهر حقيقة أمرك ويدافع عن سمعتك. هو الذي يخرج كالنور برَّك وحقك مثل الظهيرة - هكذا قال نبي الله داود عن اختبار ولقد أنصفه إلهه.  

  • عدد الزيارات: 4069